أكانت مصادفة أن يكون أول رجل دخل في الإسلام رجل أعمال، يعمل بالتجارة، رضي الله تعالى عن الصديق أبي بكر؟!. أم كانت مصادفة أن تكون أول امرأة دخلت في الإسلام سيدة أعمال، تعمل بالتجارة، رضي الله تعالى عن أم المؤمنين خديجة بنت خويلد؟!. أم كانت مصادفة أن يعمل نبي الإسلام ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالتجارة في ريعان شبابه إلى نزول الوحي عليه بالرسالة الخاتمة؟!.
أكانت هذه وأشباهها مصادفات محضة، جاءت بلا معنى في سياق بدايات الدعوة إلى الإسلام؟، أم كانت قصداً مقصوداً تخبر عن معان ومفاهيم وقيم تحتاج إلى تأمل وتدقيق ؟!!. كان أهل مكة يطلقون على خديجة ـ رضي الله عنها ـ سيدة نساء قريش، لأنها كانت ذات شرف ومال وحزم وعقل. وكان مصدر ثرائها أنها كانت تعمل بالتجارة، وتباري رجال قريش في البيع والشراء، وتقيم مع الحذاق منهم شركات مضاربة، وما كان يعيبها ذلك أبداً بل مع ذلك كله كان أهل مكة يلقبونها بالطاهرة، لطهارة سريرتها واستقامة سيرتها، وهي صفات صعبة المنال في عالم المال والتجارة لمن يعرف!!.
ولا ريب أن بيئة مكة آنذاك قد ساعدت السيدة خديجة على ولوج عالم المال والأعمال بلا حرج، إذ كان يغلب على أهل مكة العمل بالتجارة، فلم يكن ثمة زراعة أو صناعة، فاتجه أهلها إلى ممارسة العمل التجاري، ودليل ذلك ما جاء في حديث أبي سفيان ـ رضي الله عنه ـ مع هرقل، يقول أبو سفيان : ( كنا قوماً تُجَّاراً، وكانت الحرب قد حصبتنا - أي أثرت على قريش اقتصادياً- فلما كانت الهدنة - يعني: صلح الحديبية - خرجت تاجراً إلى الشام مع رهط من قريش، فوالله ما عَلِمْتُ بـمكة امرأة ولا رجلاً إلا وقد حملني بضاعة ).
ولعل أول رأس مال اتجرت به السيدة خديجة كان من أبيها، بمعنى أنها لم تكن بحاجة إلى المال والثراء بقدر ما كانت ترمي إلى ممارسة دور فعال في المجتمع جنباً إلى جنب مع الرجل.
وقد اكتسبت السيدة خديجة ـ رضي الله عنها ـ من خلال عملها بالتجارة خبرات عملية جليلة، ساهمت في تنمية مهارات التفكير الإبداعي عندها، وكان من أهمها القدرة على معرفة سجايا الناس وقدراتهم وخصائصهم النفسية والعقلية، بحكم تعاملها اليومي مع أصناف البشر المختلفة، لذلك اختارت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليقوم بأعمالها التجارية، وعللت هذا الاختيار بقولها:( إنه مما دعاني إليك دون أهل مكة ما بلغني من صدق حديثك، وعظيم أمانتك، وكرم أخلاقك )، وكان من فطنتها وذكائها وفراستها ـ رضي الله عنها ـ أنها اختارت نبياً ليكون زوجاً لها، وهو الفقير الذي لا مال له ولا تجارة، وقد كان يتمنى الزواج منها أثرياء قريش وسادتها. فهل تدرك فتياتنا اليوم المعيار الأنسب في اختيار الأزواج اقتداءً بأمهن الطاهرة الماهرة السيدة خديجة؟.
ولما تزوجت بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سخرت مالها في خدمة زوجها، ولم تبخل عليه بشيء منه، ولم تكن العلاقة بينهما شركة تجارية على قاعدة ( هذا لي وهذا لك )، ولم يكن كذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تمتد عينه إلى ثروة زوجته يريد استغلالها واستثمارها في مصالحه الشخصية.
ولذلك لما جاءها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يرتجف مما رأى وسمع في غار حراء، حتى قال: "لقد خشيتُ على نفسي". أجابته قائلة: "كلا والله، ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ ـ أي تعين العاجزـ ، وتُكْسِبُ المعدوم ـ أي تعطي الفقيرـ، وتقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق"، وهذه كمالات لا تتم إلا بالمال، وأخلاق لا يعين عليها إلا الثراء. وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يذكر لخديجة ـ رضي الله عنها ـ مواساتها له بمالها حتى بعد موتها بسنين طويلة، ويقول :" قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني من مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عز وجل الأولاد منها إذ حرمني أولاد النساء".
ولما فرضت قريش على المسلمين الحصار في شعب أبي طالب دخلت معهم، فذاقت ويلات الجوع والحرمان وهي السيدة الثرية الغنية، بل كانت تبعث بمالها سراً إلى ابن أخيها حكيم بن حزام بن خويلد ـ رضي الله عنه ـ ليشتري الطعام للمحاصرين ويرسله إليهم في جنح الظلام. إن استئناف أستاذية العالم عمل تراكمي، لا يتم إلا بتضافر جهود الرجال والنساء مجتمعة، وإذا عُرف العام الذي غابت فيه السيدة خديجة عن عالم الشهود بعام الحزن، فإن أحزاننا ما فتئت متواصلة بتغييب دور المرأة الرائد عن المشهد العام بكليته!!.
منقوووول