الـــــذوق
بسم الله الرحمن الرحيم،
الحمدلله الذي أنزل على عبده الكتاب و لم يجعل له عوجا،
سبحانه له دعوة الحق حرص عليها وأوجب التبشير بها : (وَلْتَكُن ْمِنْكُم ْأُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) "آل عمران : 104
و أشهد أن لا إله إلا الله ة حده لا شريك له وضع الحجة و أتم المحجة ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدا رسول الله بلغ الرسالة و أدى الأمامة، ونصح الأمة وكشف الغمة ، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، صل اللهم عليه و على آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه الذين آمنوا ولم يلبسو إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون.
أما بعد:
أيها الأخوة المسلمون عندما ننظر في دين الله العظيم نرى عجبا، فديننا مليئ بالذوق الإنساني الراقي في كل التعاملات و المعاملات؛ و لذلك نستطيع أن نوجز الدين كله في هذه الكلمة : "الدين المعاملة" بشقيها: معاملة الخالق، و معاملة المخلوق.
فإكرامك للمخلوق فكأنك تكرم دين الله فيه، و تكرم فضل الله فيه، و تكرم خلقة رب العبادسبحانه و تعالى في هذا المخلوق الذي تريد أن تكرمه أو تريد أن تعامله بذوق قد ضاع من كثير منا. قلب صفحات الحياة و انظر عظمة هذا الدين..
تبدأ من البيت، فالأب و الأم و أعطاهما رب العباد حقا عجيبا على الأولاد بعد قضية البر: إذا بلغ الأطفال الحلم لابد أن يستأذن الولد و البنت في غرفة الأب و الأم ، لايفتح الباب ويدخل وإنما يطرق الباب. و لا تلج قدمه داخل الغرفة إلا إذا أذن له، و حددها الإسلام في مواقع محددة : من قبل صلاة الفجر و بعد صلاة الظهيرة و هي فترة القيلولة ، و من بعد صلاة العشاء هذه أوقات يسميها العلماء أوقات غير شرعية للزيارةز
المعنى أنك أنت لا تذهب إلى أخيك المسلم في وقت من هذه الأوقات. و الله عز وجل جعل الليل لباسا و النهار معاشا وقال لنا: لا سهر بعد العشاء، ولكن الناس لا يحلو سهرهم إلا بعد الحادية عشرة و الثانية عشرة و الواحدة ليلا، فمن ذا الذي يقوم الليل و من ذا الذي يصلي و من الذي ينام ، هذه الأوقات لا أسأل عنك فيها و لا تُسأل أنت عني فيها ؛ لأنها أوقات محظورة حتى على الأبناء و البنات داخل البيت فلا يلج الغرفة عليك ويدخل دون إذن مسبق.
هل تجد هذا في المذاهب الفكرية العالمية أو في الملل و النحل الأخرى ؟ و هل هذا الذوق الرفيع موجود إلا في دين محمد صلى الله عليه و سلم ؟
تجد قضية الذوق ما بين الرجل و المرأة ذوقا عاليا. كانت عائشة تداعب النبي صلى الله عليه وسلم – كما روى أبو نعيم في (الحلية)- كيف أنا عندك يا رسول الله ؟ فكان يبتسم و يقول (كعقدة الحبل). أي: شيئ مرتبط لا ينفك ، فكل مدة تداعبه و تقول : كيف العقدة ؟ فيجيب : (كما هي يا عائشة). هذا ذوق من الزوجة لزوجها.
و كان يقم البيت، أي يكنسه، و في مهنة أهله يمزق معهن اللحم، ويخسف نعله ، و يرقع ثوبه صلى الله عليه و سلم، كأنه واحد منا و أننا منه.و هكذا تصفه السيدة عائشة في بيته صلى الله عليه و سلم : (فإذا حاء وقت الصلاة كأنه لا يعرفنا و لا نعرفه)، حتى إن قطا بريا كان في بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ، كان يستأنس بأن تضع أم المؤمنين عائشة له الطعام ، فكان يستأنس داخل البيت ، كان يمزق الستور و الوسائد و يلعب هنا و هناك – كما هي عادة القطط - فكان إذا دخل النبي صلى الله عليه و سلم سكن في ركن الحجرة أو في ركن البيت فلا يتحرك حتى يخرج النبي صلى الله عليه و سلم. هذا ذوق من النبي صلى الله عليه و سلم في التعامل لم يقل: أخرجوا القط أو كذا ، ويقول عن الهررة: ( هن من الطوافين عليكم و الطوافات) أي من كثيرات الزيارة، حتى أنه أباح العماء أن نتوضأ مما شربت منه الهرة، لكن لم يبح لنا الإسلام أن نشرب من سؤر أسد أو حيوانات مفترسة لأنها ربما فيها نجاسة.
هذه عظمة الإسلام وذوقيات الإسلام ، تجد الذوق في التعامل بين صحابة النبي صلى الله عليه و سلم، تلمحه و هو داخل إلى المدينة في الهجرة ، كان أبو بكر طوال الرحلة على مدى خمسة و خمسين و أربعمئة كيلومتر يسير أمامه ثم يسير خلفه ، ثم عن يمينه ، ثم عن يساره ، فيتعجب الرسول سائلا: (مالك يا أبا بكر)؟ فيقول أتذكر الرصد ممن أمامي، أي أتذكر أن نحن مرصودون مطلوبون ، فيأتي أمام النبي حتى إن كان هناك من ضرر فيقع على الصديق وينجو النبي صلى الله عليه و سلم.
و كان الصديق رضي الله عنه يقول: بهلاكي أنا هلاك رجل واحد، وبهلاكك أنت هلاك أمة بأسرها يا رسول الله !!فلما اقتربو من المدينة ، جٌلُّ أهل المدينة لم يروا الرسول صلى الله عليه وسلم – أي لم ير الرسول إلا اصحاب بيعة العقبة، إثنان و سبعون رجلا وإثنتا عشرة امرأة، و مارأى الرسول من أهل المدينة إلا أربعة و ثمانون فقط - كان أهل المدينة كل يوم يخرجون إلى حدود المدينة، فأبو بكر يتقدم لأنه داخل على أرض جديدة و ناس جدد و الحذر مطلوب و الحذر على من؟ على أكرم إنسان عرفته هذه البشرية صلى الله عليه وسلم. فلما أحس أبو بكر أن أهل المدينة قادمون للسلام عليه على أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان أبوبكر في قمة الذوق الإنساني ، فهو لا يريد أن يقول أنا لست محمد ، انا لست رسول الله ، و إنما تأخر قليلا وظلل بثوبه رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ففهم الأنصار أن هذا رسول الله. هذا أدب عال،
و أيضا قال أبو بكر عندما خرج عليه بعض من أعداء الرسول و الإسلام فقالوا: من هذا يا أبوبكر؟ قال : هذا رجل يهديني الطريق . و خير هادي هو الهادي صلى الله عليه و سلم. هذه ذوقيات عالية.
إن الذوق الإسلامي في قضية الضيوف عجيب ، فقد ثبت عن الرسول الله صلى الله عليه و سلم أنه ما استقبل بابا بعد أن طرقه مرة ، يعني لما يطرق الباب لا يظل واقفا هكذا ، و إنما يستدير إما على يمين الباب أو يسار الباب ، أو أنه كان يعطي ظهره للباب عليه الصلاة و السلام، هكذا علمنا هذا الذوق العجيب. و إذا دخلت كضيف إجلس في المكان الذي طلب مني صاحب البيت أن أجلس فيه ، و لا أجلس إلا إذا أذن لي بالجلوس.
حتى وصل الأمر أن أحد الصحابة دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم و أربعة من الصحابة للأكل عنده، و يمر صحابي آخر فيرى النبي صلى الله عليه و سلم ومعه أربعة فتبعهم ، فلما طرق الباب و خرج صاحب الدار قال الرسول صلى الله عليه و سلم به ( لقد دعوتنا خمسة وهذا تبعنا ، فإن شئت قبلته، وإن شئت أرجعته)، فقال : قبلناه من أجلك يا رسول الله ، هذا أدب.
حتى يصل الأمر إلى : (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا). و لا داع لأن تقولها لي بلسانك، فمثلا أسألك: هل عندك وقت فراغ الآن ؟ تقول لي : و الله أنا مشغول ، ولا وقت لدي الآن ، و الله عندي مراجعة أمر ما مع الأولاد ، جزاك الله خير.أما إن قال لك بعد هذا : سوف أجلس معك ساعتين فقط إن شاء الله فهذا من قلة الذوق.
(وما اخذ بسيف الحياء فهو حرام) كما ورد في الأثر. إن بعض الأخوة الذي لم يدرسوا حقيقة الإسلام يمسك الهاتف الذي معك و يقول ماشاءلله هاتف جميل ، هل تأذن لي بمكالمة قصيرة؟!!بالله عليكم ماذا تقول؟ هذا حرام ؛ لأنك تستغل حياء الطرف الآخر لتستغل ماله و أغراضه أو أدواته فينا لا يحل لك . فهذه الذوقيات في قضية الضيف، و كان صلى الله عليه و سلم إذا دعي – حتى في بيته وهو يأكل ، كان لا يرفض موجودا و لا يتكلف مفقودا.
لقد وضع الإسلام أدب الضيافة في كل حركة من حركات الحياة و إنما فيها من الذوق، حتى دخل رجل إلى المسجد النبوي فلما سلم أوسع له الرسول صلى الله عليه و سلم له ، فتعجب الأعرابي و قال : المسجد غير مزدحم يارسول الله، قال صلى الله عليه و سلم (يجب أن نتفسح لإخواننا إكراما لهم ) ، أي : انا في المسجد و أنت في المسجد ، كيف أظهر إكرامي لك و احترامي لك ؟ أتزحزح قليلا ، ( إِذَا قِيل َلَكُم ْتَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ)المجادلة : 11.
لكن من قلة الذوق أنك تأتي متأخرا، و لتفرق بين الناس و تتخطى الرقاب حتى (أني شخصيا الإمام)؛ كنت أتمنى لو أن بناة المساجد يصنعوا بابا للإمام حتى لا يتخطى الرقاب، لأنني و الله أشعر بالحرج و أنا أتخطى الرقاب من آخر المسجد إلى أوله. فهذا ليس من الدين ، لأن الإسلام دين نظام ، يصل الأولون يجلسون في أول صف فيمتلئ، ثم يبدأ الصف الثاني ثم الثالث، فلا داع أن تأتي آخر الناس و تريد أن تصلي أول صف، فهذا ليس من الذوق وليس من الأدب الإسلامي ، لأنك إن جاءك أحد وضايقك بأن تخطى الرقاب ، أو أراد أن يزيحك بعيدا، فأنت تشعر بشيئ في نفسك ، فما تضيق منه لا داع لأن تصنعه مع للناس.
أيضا من ضمن عدم الذوق الموجود في كثير من البيوت ، أنه كلما غضب الزوج من زوجته يقول لها: أنا سوف أتزوج عليك، و أنا سوف أطلقك ، أنا سوف آتي بأبيكِ لكذا، فيحيل حياتها نكدا بعد أن يكون الوئام سائدا في الأسرة.لا داع لذلك يا أخ الإسلام ، - لأن النساء العربيات المسلمات و الحمدلله - أذكى خلق الله ، تعرف أن من يتكلم لا ينفذ، لذلك لا داع لهذا الكلام و أنت لست أهلا له، و لا داع أن تدخل النكد إلى البيوت دون حاجة ، فأنت تريد أن تستلهم منها جانب الخير ، فلماذا تثير فيها جانب الشر فزوجتك – وأنت معها أيضا - كزجاجة فيها ماء و فيها بعض من الرمال، ونامت الزجاجة على جنبها، هدأت الرمال في الأسفل و سكن الماء في كل الزجاجة ، فلا داع أن تحرك الزجاجة من وقت إلى وقت برجلك، أي لا داع للغبار أن يتصاعد، كما أن المريض لا يحب لأت يتحرك كثيرا ، لا يجب أن تخرج سيء الأخلاق في لحظة من الهيجان النفسي أو الغضب ؛ لأن الإسلام كله عبارة عن ذوق.
كان النبي صلى الله عليه و سلم أمام بعض من صويحبات عائشة، يريد ان يعلمهن مدى المحبة و العاطفة و الرقة ، فكان يشرب من المكان الذي شربت منه عائشة من الكوب صلى الله عليه وسلم، فيريهن كيف يكون التعامل ، هذا أيضا من الذوق.
و إن من تبخر الأذواق عندنا حب الفضول: لأنه قتل الناس، أو من الذوق الإسلامي ألا يكون عندك فضول ، يدخل عندك شخص فيسأل : هذا البيت تمليك أم إيجار، بكم ؟ وهذه السيارة بالقسط أم عاجل ، و هذه الثياب التي ترتديها ... يا أخي سبحان الله ، لا داع لأن تضع أنفك في .(وَلاتَقْفُمَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) الإسراء: 36، أي الإنسان من باب الأدب الإسلامي لايدخل نفسه في ما لا يعنيه، فمثلا أخوة ذاهب إلى قضية معينة أو مهمة محددة لا يريد أن يعلمك بها ، فيسأل: لى أين أنت ذاهب ؟ يقول: و الله غرض من الأغراض، يقول :أتشتري؟ لا، تبيع؟ ، لأ، تريد أن ... يا أخي لا داع لأن تدخل نفسك في أسئلة ، فنحن لسنا نعيش عصر مخابرات، حتى يسأل الصديق صديقه في صغير الأمر و كبيره، يا فلان تريد مني خدمة؟ بارك الله فيك، دعواتك، شكر الله لك ، هذا هو الإسلام، أما أن تسأل أين و كيف ؟؟ فهذا ليس من الذوق.
رأيت أن عمر حين عرض حفصة على أبي بكر وسكت أبو بكر ، و عرضها على عثمان بن عفان وقال عثمان : أنا لا أتزوج اليوم، لما قابل أبو بكر في اليوم التالي ، قال أبو بكر: واجد أنت علي يا ابن الخطاب ، أي: غاضب مني ، علم أبوبكر أن عمر قد غضب ، قال: لا ، فقال أبو بكر : ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم فأردت أن لا أفشي سر رسول الله صلى لله عليه وسلم. و المجالس يا إخوة في الأمانة، فأنت جلست في مجلس لا داع لأن تحدث ماذا حدث، إلا إذا كان مجلس علم وخير وفيه حكمة: قيل فيه تفسير جميل لآية، قيل فيه بيت شعر جميل ، قيل فيه شيء طيب. هكذا المسلم كما قال الإمام الحسن "المسلم كالنحلة، إن أكل أكل طيبا، و إن أطعم أطعم طيبا، و إن توقف على عود لم يخدشه ولم يكسره" أي خفيف الظل، وهذا من الذوق.
إن الإسلام علمنا الذوق، ولذلك لو راجعت أنت معاملات الإسلام كلها ، و كيف يجب أن يعامل بعضنا بعضا ، لرأيت الإسلام عظيما .