شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللهجعل الله -سبحانه وتعالى- عباده المؤمنين بكل منزلة خيراً منه
فهم دائماً في نعمة من ربهم، أصابهم ما يحبون، أو ما يكرهون
وجعل أقضيته وأقداره التي يقضيها لهم ويقدرها عليهم متاجر يربحون بها عليه، وطرقاً يصلون منها إليه، كما ثبت في الصحيح عن إمامهم ومتبوعهم
الذين إذا دعي يوم القيامة كل أناس بإمامهم دعوا به -صلوات الله وسلامه عليه- أنه قال: "عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله عجب، لا يقضي الله لمؤمن قضاءً إلا كان خيراً له، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له".ورد في صحيح مسلم (2999) ـ
بلفظ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»ـ
فهذا الحديث يعم جميع أقضيته لعبده المؤمن
وأنها خير له إذا صبر على مكروهها وشكر لمحبوبها
بل هذا داخل في مسمى الإيمان
كما قال بعض السلف: "الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر"ـ
ـ[أخرجه وكيع بن الجراح في الزهد (2/456) برقم (203)، والطبراني في الكبير (9/107)، والمنذري
في الترغيب والترهيب (4/171 ح4976)، موقوفاً على ابن مسعود بلفظ: "الصبر نصف الإيمان
واليقين الإيمان كله ..."]ـ
وإذا اعتبر العبد الدينَ كلَّه رآه يرجع بجملته إلى الصبر والشكر
وذلك لأن الصبر ثلاثة أقسام
صبر على الطاعة حتى يفعلها
فإن العبد لا يكاد يفعل المأمور به إلا بعد صبرٍ ومصابرة ومجاهدة لعدوه الباطن والظاهر، فبحسب هذا الصبر يكون أداؤه للمأمورات وفعله للمستحبات
النوع الثاني
صبر عن المنهي عنه حتى لا يفعله، فإن النفس ودواعيها، وتزيين الشيطان، وقرناء السوء، تأمره بالمعصية وتجرئه عليها، فبحسب قوة صبره يكون تركه لها
قال بعض السلف: أعمال البر يفعلها البر والفاجر
ولا يقدر على ترك المعاصي إلا صديق
ـ [أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (10 /197) بإسناده عن سهل بن عبد الله التستري
ضمن كلام له طويل بلفظ: "ليس من عمل بطاعة الله صار حبيب الله
ولكن من اجتنب ما نهى الله عنه صار حبيب الله، ولا يجتنب الآثام إلا صِدِّيق مقرب، وأما أعمال البر يعملها البر والفاجر"]ـ
النوع الثالث
الصبر على ما يصيبه بغير اختياره من المصائب
وهي نوعان
نوع اختيار للخلق فيه
كالأمراض وغيرها من المصائب السماوية، فهذه يسهل الصبر فيها
لأن العبد يشهد فيها قضاء الله وقدره
وإنه لا مدخل للناس فيها، فيصبر إما اضطرارا
وإما اختيارا، فإن فتح الله على قلبه باب الفكرة في فوائدها
وما في حشوها من النعم [نواحيها أو داخلها]ـ
والألطاف [اللطيف من الكلام: ما غمض معناه وخفي
واللطف في العمل: الرفق فيه. انظر: لسان العرب مادة(لطف) (9/316)]ـ
انتقل من الصبر عليها إلى الشكر لها والرضا بها
فانقلبت حينئذ في حقه نعمة
فلا يزال يجري قلبه ولسانه [أي دأبه وشأنه] فيها
"رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"
ـ [يشير إلى حديث معاذ رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
أخذ بيده وقال: "يا معاذ والله إني لأحبك، فقال: أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم اعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"ـ
أخرجه أبو داود في سننه (2/181) كتاب الوتر باب في الاستغفار برقم(1522) والإمام أحمد في المسند (5/245،247). والنسائي في سننه (3/53) كتاب السهو باب نوع آخر من الدعاء. والإمام أحمد في المسند(5/245،247)]ـ
وهذا يقوى ويضعِف بحسب قوة محبة العبد لله وضعفها
بل هذا يجده أحدنا في الشاهد
كما قال الشاعر يخاطب محبوبا له ناله ببعض ما يكره
لئن ساءني أن نِلتِنِي بمساءة لقد سرني أني خطرت ببالِكِ
النوع الثاني
أن يحصل له بفعل الناس في ماله أو عرضه أو نفسه
فهذا النوع يصعب الصبر عليه جداً، لأن النفس تستشعر المؤذي لها، وهي تكره الغلبة، فتطلب الانتقام، فلا يصبر على هذا النوع إلا الأنبياء والصديقون
وكان نبينا - صلى الله عليه وسلم - إذا أوذي يقول: "يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر"ـ
ـ[أخرجه البخاري (3405) ومسلم (1062)]. وأخبر عن نبي من الأنبياء أنه ضربه قومه
فجعل يقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". [البخاري (3477)، ومسلم (1792)]ـ
وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم
أنه جرى له هذا مع قومه فجعل يقول مثل ذلك
فجمع في هذا ثلاثة أمور
العفو عنهم
والاستغفار لهم
والاعتذار عنهم بأنهم لا يعلمون
وهذا النوع من الصبر عاقبته النصر
والعز والسرور
والأمن والقوة في ذات الله
وزيادة محبة الله ومحبة الناس له وزيادة العلم
ولهذا قال الله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [الآية (24) من سورة السجدة]ـ
فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، فإذا انضاف إلى هذا الصبر قوة اليقين والإيمان ترقى العبد في درجات السعادة بفضل الله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
ولهذا قال الله تعالى: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا ﴾ يعني: الأعمال الصالحة مثل العفو والصفح، ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ـ
ـ[فصلت: 34-35] نصيب وافر وهي الجنة
ويعين العبد على هذا الصبر عدةُ أشياء
أحدها
أن يشهد أن الله سبحانه وتعالى خالق أفعال العباد حركاتهم وسكناتهم وإراداتهم، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن
فلا يتحرك في العالم العلوي والسفلي ذرة إلا بإذنه
ومشيئته والعباد آلة، فانظر إلى الذي سلطهم عليك
ولا تنظر إلى فعلهم بك، تستريح من الهم والغم والحزن
الثاني
أن يشهد ذنوبه، وأن الله إنما سلطهم عليه بذنبه
كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ـ
ـ[الآية(30) من سورة الشورى]ـ
فإذا شهد العبد أن جميع ما يناله من المكروه فسببه ذنوبه، اشتغل بالتوبة والاستغفار من الذنوب التي سلطها عليه، عن ذمهم ولومهم والوقيعة فيهم. وإذا رأيت العبد يقع في الناس إذا آذوه ولا يرجع إلى نفسه باللوم والاستغفار فاعلم أن مصيبته مصيبة حقيقية. وإذا تاب واستغفر
وقال: هذا بذنوبي، صارت في حقه نعمة. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه كلمة من جواهر الكلام: (لا يرجونَّ عبدٌ إلا ربَّه، ولا يخافنّ عبدٌ إلا ذنبه)ـ
ـ [أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (7/122)رقم (9718) والأصبهاني
في الترغيب والترهيب (2/662) رقم (1586) وابن عبد البر في جامع بيان العلم
وفضله (1/383) رقم (547، 548)]ـ
وروي عنه وعن غيره: (ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة)ـ
ـ [رواه الزبير بن بكار في الأنساب (كما عزاه إليه الحافظ ابن حجر في الفتح (2/497)، ولم أجده في القسم المطبوع من كتاب الأنساب)ـ
أن العباس لما استسقى به عمر قال: "اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة"
ضمن دعاء طويل
وأخرجه أبوبكر أحمد بن مروان الدينوري (ت: 333) في المجالسة وجواهر العلم (3/102 - 103 ط.دار ابن حزم) موقوفاً على العباس في دعائه عندما استسقى به عمر، فكان من دعائه: "اللهم إنه لم ينزل بلاء من السماء إلا بذنب، ولا يكشف إلا بتوبة"ـ
كما أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (26/ 358 - 359 ط دار الفكر
ص: 184 تراجم عبادة بن أوفى - عبد الله بن ثوب)ـ
من طريق أبي صالح باذام مولى ابن هانيء عن العباس بن عبد المطلب في حديث طويل. وقد ثبت في صحيح البخاري استسقاء عمر بدعاء العباس (2/494 مع الفتح) كتاب الاستسقاء -باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا- (ح: 1010)، دون بيان صفة دعائه على وجه التفصيل، فلم يرد ذكر هذا اللفظ. وانظر الكلام على هذا الحديث في اقتضاء الصراط المستقيم (ص 337، 338، ط دار الإفتاء). (ق3/أ)]ـ
الثالث
أن يشهد العبد حسن الثواب الذي وعده الله لمن عفى وصبر
كما قال تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ
إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ الآية [40] من سورة الشورى
ولما كان الناس عند مقابلة
الأذى ثلاثة أقسام
ظالم يأخذ فوق حقه
ومقتصد يأخذ بقدر حقه
ومحسن يعفو ويترك حقه
ذكر الأقسام الثلاثة في هذه الآية
فأولها للمقتصدين
ووسطها للسابقين
وآخرها للظالمين
ويشهد نداء المنادي يوم القيامة: ألا ليقم من وجب أجره على الله
فلا يقوم إلا من عفى وأصلح
ـ [أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان يوم القيامة أمر الله منادياً ينادي ألا ليقم من كان له على الله أجره فلايقوم إلا من عفى في الدنيا وذلك قوله: ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾". أورده السيوطي في الدر المنثور (6/11). والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (11/198). وأخرجه ابن حبان في روضة العقلاء (ص: 276، 277) عن الحسن البصري مرسلاً، ووصله البيهقي في شعب الإيمان (13/136) برقم (7050). ورواه هناد ابن السري في الزهد (2/904)، وأبو نعيم في الحلية (9/204) عن الحسن البصري موقوفاً]ـ
وإذا شهد مع ذلك؛ فوت الأجر بالانتقام والاستيفاء سهل عليه الصبر والعفو
الرابع
أن يشهد أنه إذا عفى وأحسن أورثه ذلك من سلامة القلب لإخوانه
ونقائه من الغش، والغل، وطلب الانتقام، وإرادة الشر
وحصل له من حلاوة العفو ما يزيد لذته ومنفعته عاجلا وآجلا على المنفعة الحاصلة له بالانتقام أضعافا مضاعفة
ويدخل في قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ـ
ـ [الآية(134، 148) من سورة آل عمران]ـ
فيصير محبوبا لله، ويصير حاله حال من أُخِذَ منه دراهم فَعُوِّضَ عنها ألوفاً من الدنانير، فحينئذ يفرح بما مَنَّ الله عليه أعظم فرحٍ ما يكون
الخامس
أن يعلم أنه ما انتقم أحد قط لنفسه إلا أورثه ذلك ذلاً يجده في نفسه
فإذا عفى أعزه الله. وهذا مما أخبر به الصادق المصدوق
حيث يقول: "ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً"ـ
ـ [أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الأدب والبر والصلة باب استحباب العفو (8/20)]ـ
فالعز الحاصل له بالعفو أحب إليه وأنفع له من العز الحاصل له بالانتقام
فإن هذا عِزٌّ في الظاهر وهو يورث في الباطن ذُلاً
والعفو ذل في الباطن وهو يورث العز باطناً وظاهراً
السادس
وهي من أعظم الفوائد
أن يشهد أن الجزاء من جنس العمل، وأنه نفسه ظالم مذنب
وأن من عفى عن الناس عفى الله عنه، ومن غفر غفر الله له
فإذا شهد أن عفوه عنهم وصفحه وإحسانه مع إساءتهم إليه
سبب لأن يجزيه الله كذلك من جنس عمله فيعفو عنه ويصفح ويحسن إليه
على ذنوبه، ويسهل عليه عفوه وصبره ويكفي العاقل هذه الفائدة
السابع
أن يعلم أنه إذا اشتغلت نفسه بالانتقام وطلب المقابلة ضاع عليه زمانه
وتفرق عليه قلبه، وفاته من مصالحه، ما لا يمكن استدراكه
ولعل هذا يكون أعظم عليه من المصيبة التي نالته من جهتهم
فإذا عفى وصفح فرغ قلبه وجسمه لمصالحه التي هي أهم عنده من الانتقام
الثامن
أن انتقامه واستيفاءه وانتصاره لنفسه وانتقامه، لها
فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما انتقم لنفسه قط
ـ [انظر: صحيح البخاري كتاب المناقب باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - (6/566 مع الفتح) رقم: (3560). وصحيح مسلم كتاب الفضائل باب مباعدته - صلى الله عليه وسلم - للآثام، رقم (2327 - 2328)]ـ
فإذا كان هذا خير خلق الله وأكرمهم على الله لم يكن ينتقم لنفسه مع أن أذاه أذًى لله ويتعلق به حقوق الدين، ونفسه أشرف الأنفس، وأزكاها، وأبرها وأبعدها من كل خُلقٍ مذموم، وأحقها بكل خُلقٍ جميل، ومع هذا فلم يكن ينتقم لها
فكيف ينتقم أحدنا لنفسه التي هو أعلم بها
وبما فيها من العيوب والشرور بل الرجل العارف
لا تساوي نفسه عنده أن ينتقم لها
ولا قدر لها عنده يوجب عليه انتصاره لها
التاسع
إن أوذي على ما فعله لله أو على ما أمره به من طاعته ونهى عنه من معصيته وجب عليه الصبر ولم يكن له الانتقام، فإنه قد أوذي في الله
فأجره على الله، ولهذا لما كان المجاهدون في سبيل الله ذهبت دماؤهم وأموالهم في الله لم تكن مضمونة، فإن الله تعالى اشترى منهم أنفسهم وأموالهم، فالثمن على الله لا على الخلق، فمن طلب الثمن منهم لم يكن له على الله ثمن، فإنه من كان في الله تلفه كان على الله خلفه
ـ [روى أبو يعلى في مسنده (4/36 ح 2040 تحقيق حسين سليم أسد)، عن بشر بن الوليد الكندي عن المسور بن الصلت عن محمد بن المنكدر عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل معروف صدقة، وما أنفق الرجل على أهله وماله كتب له صدقة، وما وقى به عرضه فهو صدقة. قال: وكل نفقة مؤمن في غير معصية فعلى الله خلفه ضامناً إلا نفقة في بنيان".قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/136) : "وفي إسناد أبي يعلى مسور بن الصلت وهو ضعيف". ورواه أيضا الدار قطني في سننه (3/28 برقم 101)، والحاكم في مستدركه (2/50) كلاهما من طريق عبد الحميد بن الحسن الهلالي عن محمد بن المنكدر بنحوه
وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح ولم يخرجاه
وشاهده ليس من شرط هذا الكتاب "وتعقبه الذهبي بقوله: "بل ضعفوه"]ـ
وإن كان قد أوذي على معصية
فليرجع باللوم على نفسه
ويكون في لومه لها شغل عن لومه لمن آذاه
وإن كان قد أوذي على حضٍ، فليوطن نفسه على الصبر
فإن نيل الحظوظ دونه أَمْرٌ أَمَرُّ من الصبر
فمن لم يصبر على حرِّ الهواجر
ـ [جمع هاجرة: وهي نصف النهار عند زوال الشمس إلى العصر
أو نصف النهار عند اشتدادا الحر. انظر: لسان العرب مادة (هجر) (5/254)]ـ
والأمطار، والثلوج، ومشقة الأسفار، ولصوص الطريق
وإلا فلا حاجة له في المتاجر، وهذا أمر معلوم عند الناس أن من صدق في طلب شيء من الأشياء بذل من الصبر في تحصيله بقدر صدقه في طلبه
العاشر
أن يشهد معية الله معه إذا صبر، ومحبة الله له ورضاه
ومن كان الله معه دفع عنه من أنواع الأذى والمضرات
ما لا يدفع عنه أحد من خلقه
قال الله تعالى: ﴿ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ـ
[الآية (46) من سورة الأنفال]
وقال: ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [الآية (146) من سورة آل عمران]ـ
الحادي عشر
أن يشهد أن الصبر نصف الإيمان، فلا يبذل من إيمانه جزءاً في نصرة نفسه
فإن صبر فقد أحرز إيمانه وصانه من النقص
والله تعالى يدفع عن الذين آمنوا
الثاني عشر
أن يشهد أن صبره حكم منه على نفسه، وقهر لها، وغلبة لها، فمتى كانت النفس مقهورة معه مغلوبة، لم تطمع في استرقاقه، وأسره، وإلقائه في المهالك، ومتى كان مطيعاً لها سامعاً منها مقهوراً معها لم تزل به حتى تهلكه، أو تتداركه رحمة من ربه. فلو لم يكن في الصبر إلا قهره لنفسه ولشيطانه، فحينئذ يظهر سلطان القلب وتثبت جنوده، فيفرح ويقوى ويطرد العدو عنه
الثالث عشر
أن يعلم أنه إن صبر فالله ناصره ولابد، فإن الله وكيل من صبر وأحال ظالمه عليه، ومن انتصر بنفسه لنفسه وكله الله إلى نفسه، فكان هو الناصر لها، فأين من ناصره الله خير الناصرين، إلى من ناصره نفسه أعجز الناصرين وأضعفه
الرابع عشر
أن صبره على من آذاه واحتماله له يوجب رجوع خصمه عن ظلمه وندامته واعتذاره، ولوم الناس له فيعود بعد إيذائه له مستحييا منه
نادماً على ما فعله، بل يصير موالياً له
وهذا معنى قوله: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ ـ
ـ[الآيتان ([34،35) من سورة فصلت]ـ
الخامس عشر
ربما كان انتقامه ومقابلته سبباً لزيادة شر خصمه وقوة نفسه وفكرته في أنواع الأذى التي يوصلها إليه كما هو المشاهد، فإذا صبر وعفى أمن من هذا الضرر. والعاقل لا يختار أعظم الضررين بدفع أدناهما، وكم قد جلب الانتقام والمقابلة من شر عجز صاحبه عن دفعه، وكم قد ذهبت به نفوس ورياسات وأموال وممالك لو عفى المظلوم لبقيت عليه
السادس عشر
أن من اعتاد الانتقام ولم يصبر، لابد أن يقع في الظلم، فإن النفس لا تقتصر على قدر العدل الواجب لها، لا علما، ولا إرادة، وربما عجزت عن الاقتصار على قدر الحق، فإن الغضب يخرج بصاحبه إلى حد لا يعقل ما يقول وما يفعل، فبين هو مظلوم ينتظر النصر والعز، إذ انقلب ظالماً ينتظر المقت والعقوبة
السابع عشر
أن هذه المظلمة التي قد ظُلمها هي سبب، إما لتكفير سيئة
أو رفع درجة، فإذا انتقم ولم يصبر لم تكن مكفرة لسيئته ولا رافعة لدرجته
الثامن عشر
أن عفوه وصبره من أكبر الجند له على خصمه، فإن من صبر وعفا كان صبره وعفوه موجباً لذل عدوه، وخوفه وخشيته منه، ومن الناس
فإن الناس لا يسكتون عن خصمه وإن سكت هو، فإذا انتقم زال ذلك كله
ولهذا تجد كثيراً من الناس إذا شتم غيره أو آذاه يحب أن يستوفي منه
فإذا قابله استراح وألقى عنه ثقلاً كان يجده
التاسع عشر
أنه إذا عفى عن خصمه، استشعرت نفس خصمه أنه فوقه
وأنه قد ربح عليه، فلا يزال يرى نفسه دونه وكفى بهذا فضلاً وشرفاً للعفو
العشرون
أنه إذا عفا وصفح كانت هذه حسنة، فتولد له حسنة أخرى
وتلك الأخرى تولد أخرى، وهلم جرًّا، فلا تزال حسناته في مزيد
فإن من ثواب الحسنة الحسنة، كما أن من عقاب السيئة السيئة بعدها
وربما كان هذا سبباً لنجاته وسعادته الأبدية
فإذا انتقم وانتصر زال ذلك
تحقيق أ د. محمد بن خليفة التميمي
الأستاذ في كلية الدعوة في الجامعة الإسلامية
بالمدينة المنورة
منقول من موقع
عالمى الذى احيابه